“مأمور الثلاجة”…كيف نتكيّف مع الموت عندما يتحوّل إلى وظيفة يومية؟

في السباق الرمضاني المقبل تبدو الكويت على موعدٍ مع عملٍ يغامر بطرق أبوابٍ جديدة، «مأمور الثلاجة». ليس مجرد عنوان لافت، بل مشروعٌ درامي يقرّر أن ينقل الكاميرا إلى قلب المكان الذي نفضّل ألّا نتخيّله أصلًا: ثلاجة الموتى، بما تحمله من أسئلة أخلاقية ونفسية ودلالاتٍ اجتماعية.

هذا خيارٌ جريءٌ لما يُسمّى «الرعب النفسي في دراما الواقع»، حيث يرتكز المسلسل على قصة حقيقية ويُصوَّر في مواقع فعلية من مستشفيات ومشارح، كي «يعيش الجمهور التجربة بتفاصيلها»، وفق ما أكده المخرج ثامر العسلاوي.

جرأة النص ليست قفزة في الفراغ؛ إنها امتدادٌ لخطٍّ بات يُعرَف به بندر طلال السعيد: كاتبٌ ومنتجٌ يفضّل الذهاب إلى «المناطق المحرّمة» دراميًا، ويُمتحن قدرته على صناعة التوتّر بالواقع لا بالافتعال. السعيد كشف أن العمل من 10 حلقات ومُجاز رقابيًا منذ أشهر، وأنه يتبنّى خيار تقليل عدد الحلقات لرفع الجودة—رؤيةٌ تُفاخر بها الدراما العالمية منذ سنوات، ويبدو أن الخليج يلحق بها بثقة. والأهم: أن القصة مستوحاة من تجربة حقيقية لشابٍ عُيّن مأمورًا لثلاجة الموتى، بعد أن جلس صنّاع العمل ساعاتٍ مع صاحب الحكاية لتقليب التفاصيل قبل الكتابة.

فنيًا، المسلسل يندرج في توليفة هجينة: دراما إنسانية، رعب نفسي، لمسات كوميديا سوداء—خليطٌ يقتضي ضبط نَفَس الإخراج وتماسك البناء. هذا ما لمح إليه فريق العمل خلال «بروفات الطاولة»، التي شهدت انسجامًا وتوزيعًا دقيقًا للأدوار، مع خالد أمين في شخصية «مأمور الثلاجة»، ومحمد جابر في دور الأب الذي يصطدم باكتشاف مهنة ابنه، إضافةً إلى حضور جمال الردهان كمديرٍ للمستشفى وضيوف شرف وأسماء شابة تمنح الحكاية دمًا جديدًا.

من زاوية الصناعة، ميزة «مأمور الثلاجة» أنه يوسّع خرائط الدراما الخليجية موضوعًا وشكلًا. نحن أمام موقع تصوير غير مريح، وإصرار على الواقعية المكانيّة بدل الاستسهال داخل الأستوديو، وخيارٍ واعٍ لحلقاتٍ أقصر تُراهن على التكثيف لا المطّ. كما أن العمل مرشّح للعرض في رمضان 2026، ما يعني تعميده في ذروة المنافسة، حيث يُختبر المُنتَج بعيونٍ متمرّسة ومتطلّبة.

أما على مستوى الرؤية المنتِجة، فبندر السعيد ليس طارئًا على المشهد. سيرته تكشف نزوعًا دائمًا إلى تنويع الأجناس والملفات: من أفلامٍ وسير وقضايا اجتماعية («الكيلو 300» 2021 مثلًا) إلى أعمال تلفزيونية ومسرحية مختلفة المزاج، وصولًا إلى هذا الرهان الجديد الذي يلامس حدود التابو من دون ابتذال. هذا التراكم يمنح «مأمور الثلاجة» مظلة ثقة: منتجٌ وكاتبٌ يدير المخاطرة بوصفها أداة إبداع لا قفزًا استعراضياً.

ولأن الجرأة لا تكفي وحدها، ينهض هنا دورُ شراكة السعيد–العسلاوي التي تجدد نفسها بعملٍ يَعِد بـ«قلب الموازين» داخل موجة المسلسلات القصيرة المائلة للأكشن، لكن مع جوهر إنساني يطرح سؤالًا بسيطًا ومقلقًا: كيف نتكيّف مع الموت عندما يتحوّل إلى وظيفة يومية؟ الإجابة ليست في الصدمات البصرية، بل في الطبقات النفسية للشخصيات وطريقة اشتغالها تحت ضغط المكان والوصمة الاجتماعية.

إذا حافظ «مأمور الثلاجة» على اتّساق لغته البصرية وعلى اقتصادٍ حكائي يليق بعشر حلقات، فنحن أمام اختبارٍ مهم للدراما الخليجية: اختبارُ قدرة الصناعة على تحويل المحاذير موضوعًا إلى أصلٍ جمالي، وعلى تحديث قواعد اللعبة بالإنتاج القصير عالي الكثافة، وبمعالجةٍ تُعلي من الصدق الواقعي على حساب الإغراق الميلودرامي. ولأجل ذلك، تُحسب لبندر السعيد جرأته وتنوّعه وخروجه على المألوف، إذ يدفع بالسوق إلى الأمام: موضوعًا، وبناءً، وإنتاجًا.

شاهد أيضاً

“إثراء” يحصد جائزة العمل التطوعي للمرة الرابعة

في محطة نوعية تتوّج مسيرة ممتدة من الإلهام والعطاء، حصد مركز الملك عبد العزيز الثقافي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *